مما رُدد على أسماعي مراراّ في ثنايا الإطار العلمي أن تكرار الكتاب الواحد خير من قراءة كتب عدة، وقد كنت في بداية طلبي لا أفقه حكمة ذلك ولا أعيها، أجاهد نفسي على التكرار وهي له كارهة غير مطيقة، فمن طبيعة النفس الملل والسأم .. فكيف إن كانت تطرق باباً لا تدري علام تطرقه، ولا تدري أيفتح هو أم لا يفتح، وبقيت على حالي بين عزيمة نفسٍ وفتورها، وبين ثقة بالناصح وتشكك بالنصيحة إلى أن منّ الله علي فقذف في قلبي نوراً، أضاء به بصيرتي فعرفني كنه العلم وحقيقته، وغايته المرجوة وثمرته، فالحمدلله أولاً وآخراً على منه وفضله وكرمه.
ليهنك العلم ابا المنذر |
أي طالب العلم، قد تظن أن العلم إنما يكون بسعة
الاطلاع وكثرة المعارف، وتنوع الفنون وتعدد المسالك، وهذا وإن كان متضمناً تحت
مظلة العلم إلا أن بينه وبين جوهر العلم بوناً كبيراً، فالعلم درجات متفاوتة،
ومراتب متعاضدة، أختصرها لك في ثلاث:
- العلم الجزئيات متفرقةً.
- العلم بالأصول الجامعة لمتفرق الجزئيات.
- القدرة على تنزيل الأصول وتوليد الجزئيات.
فأدنى هذه الدرجات ومبتداها العلم بالجزئيات
متفرقةً وهو يحصل لكل أحد حساً أو خبراً، وذلك من مثل: محمد في "محمدٌ
مجاهدٌ" مرفوع بالضمة، وهذه معلومة قاصرة غير متعدية في فائدتها، فإذا ترقيت
في العلم درجةً علمت الأصول والمظلات الجامعة لمتفرق الجزئيات، فاستنبطت منها
القواعد المطردة وعرفت لكل قاعدةً شروط اطرادها وجمعت من بعد شذوذاتها، فإن لم تكن
قد سُبقت إلى ذلك، بأن لا يكون الفن الذي تريد مؤصلاً وجب عليك وضع الأصول الجامعة
له، ولا يكون ذلك إلا بعد الإلمام الدقيق القائم على التتبع والحصر لمتفرق جزئيات
هذا الفن، ومثال الأصول قولك: كل مبتدأ مرفوع، فعلمك بهذه القاعدة إنما هو مبني
على جهود السلف الجليلة في تتبع كلام العرب وتأصيله، وذلك أنهم قد اعتمدوا على
مشافهة العرب، فكانوا يرحلون إليهم فيقيمون في بواديهم النائية، يحتملون في ذلك
مشاق الرحلة وشظف العيش، ثم إذا ارتقيت في العلم درجة أخرى كنت قادراً على تنزيل
هذه الأصول وإجرائها على جزئيات العلم، أي مستطيعاً توليد الجزئيات من الكليات
وهذه أشرف المراتب، ومثالها قولك : محمٌد في "محمٌد مجاهٌد" مرفوع لأنه
وقع مبتدأً لجملة اسمية وعلامة رفعه الضمة لأنه وقع مفرداً، وهذه المرتبة يقصر
عنها كثير من الطلاب لانشغالهم بجمع الجزئيات عن حيازة الكليات أو لانشغالهم بجمع
الأصول عن بناء الملكات، فإذا أدركنا مراتب العلوم عرفنا أن العلم يسير غير
مستغلق، وإنما يكون استغلاقه على الطالب بقدر جهله بهذه المراتب؛ ولذا كان علم
النحو أيسر العلوم وأقربها على البعض، وأعسرها وأمتنها على آخرين، فإن زادك أحد
على هذه المراتب -دون ما قد اختصرناه من البينيات- فإن فائدته لا تجاوز أن تكون
فائدة تصنيفية مجددة لطريقة عرض الأصول، أو فائدةً تفسيرية مجددة للغة العلم
مبيّنة لغريب ألفاظه، أو فائدة ملتقطة ليست هي من صميم العلم في شيء، ثم إذا
أعملنا الفكر في هذه المراتب وجدنا أن حقيقة العلم ليست في حيازة آحاد المعلومات؛
لأن جزئيات العلم بحر واسع لا ساحل له، مهما شربت منه ازددت عطشاً، فقدرة الإنسان
على الحفظ والاستذكار مهما بلغت قوةً ظلت قاصرة، وليس هو كذلك في حيازة الأصول دون
إجرائها وإعمالها فالذهب عند الأحمق كالحجر،
وعادة النصل أن يزهى بجوهره .. وليس
يعمل إلا في يدي بطل
ولكن العلم الحق إنما يكون بالقدرة على جمع
الأصول وتنزيلها وخلق الجزئيات وتوليدها، فجزئيات العلوم كلبن البناء الضعيفة لا
تجاوز في بنائها الأفق السطحي، وكلياته كهيكل البناء يعلو ويشمخ إلا أنه أجوف غير
صالح، أما الملكات فهي كالاسمنت تعلو باللبن الضعيف على الهيكل فيصير البناء تاماً
مكتملاً، وإذا ضربنا مثلاً بثلاثة: يعمد أولهم إلى جزئيات الفقه فيحفظ ما تيسر من
الفروع، والثاني إلى الكليات فيحفظ ما أمكنه من الأصول، والثالث يضيف إلى ما جمعاه
بناء ملكة العلم، وجدت الأول جامداً كثير الخطأ لا يجاوز ما حفظه، والثاني ذاهلاً
حائراً لم ينتفع بما حفظ، والثالث ملماً بالفقه أصوله وفروعه صالحاً للقضاء
والإفتاء دون تطلب جهد أو عناء، وهكذا كان علماؤنا رحمهم الله تعالى، فإذا نظرت
إلى مكتبة الشيخ ابن عثيمين توقعت أنها من صنف المكتبات الشامخات، فيها آلافٌ من
الكتب والمصنفات، فما تلبث أن تتفاجئ بمكتبة مختصرة فيها كتب يسيرة قليلة! فمن أين
للشيخ رحمه الله ذلك العلم الزاخر والخير الوافر الذي امتلأت به بطون المجلدات،
وذخرت به المكتبات؟! يجيبك الشيخ رحمه الله فيقول: "حفظنا قليلاً وقرأنا
كثيراً فانتفعنا بما حفظنا أكثر من انتفاعنا بما قرأنا" أي بالأصول الجامعة
من أمهات العلوم، ونحن إذا رجعنا إلى أعلم القرون وأخيرها قرن رسولنا صلى الله
عليه وسلم وجدنا المعنى الذي أصفه لكم واقعاً متحققاً!
فعن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال: قال لي رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا المنذر، أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟)
قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: يا أبا
المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟» قال: قلت: {الله لا إله إلا هو الحي
القيوم} قال: فضرب في صدري، وقال: (والله ليهنك العلم أبا المنذر).
لم يكن لأب المنذر سابق علم بجواب سؤال رسول الله
صلى الله عليه وسلم فتأدب معه وأسند العلم إلى الله عز وجل، فلما كرر رسول الله
صلى الله عليه وسلم سؤاله علم أبو المنذر أن المقام مقام تعليم وأن رسول الله يحب
أن يسمع منه، فوضع أبو المنذر رضي الله عنه أصلاً كلياً باستقرائه لمجموع أحوال
النبي صلى الله عليه وسلم فعلم أن أعظم العلوم وأشرفها تلك المتعلقة بالله عز وجل
وصفاته، فلما أسقط القاعدة الكلية على جزئيات القرآن علم أعظم الآيات وأشرفها فقال
: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم)، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره
إشارةً إلى امتلائه علماً وحكمة وقال:"والله ليهنك العلم أبا المنذر"،
وفي هذا امتداح لعلم أبيّ بن كعب رضي الله عنه، ودلالة على أنه بلغ من العلم
مرتبةً شريفةً عليّة هي جوهر العلم وحقيقته المرضية، وإن بين إجابة أبي ذر رضي
الله عنه وإجابة الناقل عن أب ذر المقلد له تفاوتاً كبيراً
..
اللهم ارزقنا علماً كعلم أب ذر!.
فإذا حصلت لك القناعة بما أقول فاعلم أن سبيلك
إلى العلم إنما يكون بثلاثة أمور، تحرص عليها كل الحرص، أولها: العلم بكتاب الله
وسنة الرسول فهما أصل الأصول وعنهما تنبثق العلوم، وثانيها: العلم بكليات العلوم
التي أفنى العلماء أعمارهم في تأصيلها وسبكها وذلك بحفظ المختصرات الموضوعة
والعناية بها، ثالثها: بناء ملكة العلم وذلك لا يكون إلا بتكرار النظر -بل
وإدمانه- في مطولات العلماء المتقدمين نظر تفحص وعناية وتفهم ودراية، يتبعه ممارسة
جزئية متعددة في صورها، كخلق الاستشكالات وإعمال الذهن في حل المغلقات، وغير ذلك
من الأسباب التي درج عليها أهل العلم الثقات، كالمدارسة والمذاكرة والمزاولة
والمناظرة والبحث والتصنيف والتعليم.
فإذا أدركت هذا كله، عرفت لكل شيء قدره، وأوجبت
له منزلته، ولم يشغلك عنه هوىً في غيره، وتسليت بعظم الثمرة على ثقل المؤونة،
فيحلو لك حينئذ التكرار، وتلتذ بالمزاولة، فإذا انصرمت سنين الكد والتعب وجدت
طوداً راسخاً وجبلاً أشماً، لو بصُرت إليه من يومك هذا أنكرت نفسك واستصغرتها
أمامه، فليست هي منه ولا هو منها، ولكنك إن سمعت لقولي وعملت بنصحي فإنك -لا شك-
بالغه!
واعلم -رحمك الله- أن العلم آلةٌ لا غاية، يُتوصل
به إلى تحقيق خشية الله عز وجل (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ
الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ)، فلا تكون الخشية إلا بالعلم بالله
وبمراداته سبحانه وتعالى، يقول ابن القيم رحمه الله "والخشية أخص من الخوف؛
فإن الخشية للعلماء بالله، فهي خوف مقرون بمعرفة" انتهى كلامه، والخشية
مقتضية للعمل (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ) فكلما زاد حظ العبد
من خشية الله عز وجل زاد اتعاظاً واعتباراً فألحقه عملاً، فإذا لم تكن عاقبة علمه
عملاً لم يكن محققاً لخشية الله عز وجل أتم التحقيق؛ لعلّة في العلم المتلقى كخوضه
فيما لا ينفع من العلوم كالفلسفة ونحوها، أو لعلة في طريقة التلقي كتلقيه على
الجهلة المضلين الذين لا يحسنون توجيهاً ولا يخلصون نصحاً، أو لعلة في قلبه شهوة
كانت أم شبهة صدته عن الانتفاع بالعلم النافع، والله تعالى أعلم.
الكاتب: عبدالله الخطيب
اكتب تعليق اذا كان لديك اي اقتراح أو سؤال عن الموضوع