مما لمز به الشيخ إبراهيم السكران فرج الله كربه المشروع الاستشراقي إسقاط بعض المستشرقين من أمثال فلهاوزن وهاملتون للنموذج التفسيري الغربي على الواقع إلاسلامي، واعتبر صنيعهم هذا ضرباً من السطحية الفكرية والجهالة العلمية؛ لما فيه من هدر للفروق الجوهرية بين صيغ العلاقات في التاريخ إلاسلامي والتاريخ الكنسي، وحاصل الامر كما بينه الشيخ في أمرين: "تفويت وإضافة"، أي أنه ومتى عُدم التلائم بين النموذج التفسيري والموضوع المدروس، فات الباحث إدراك بعض عناصر الموضوع إذ لا يوجد في النموذج التفسيري ما يمثلها أو يقوم مقامها، وفي المقابل تسقط بعض الرواسب المضمونية في النموذج التفسيري المستعمل على الموضوع المدروس دون تحقق الصلة بينهما.
حتى نعيش الإسلام |
ولست هنا أعلق على ذات الفعل الاستشراقي، فهو بين
السخافة ساقط بأدنى نظر، فمن يشك في جهالة من يقول "لوثر الإسلام"
و"حزقيال البيت الاموي"! وليس تعليقي متعلقاً كذلك برجالات الاستشراق أو
من يتلقف قيأهم من حداثيي العرب، إذ إنهم معترفون بهذه التهمة لا ينفونها عن
أنفسهم، إنما يتوجه همني إلى فئة من الإسلاميين تنتقد الفعل الاستشراقي وتستشنعه،
ثم تجدها من جهة أخرى واقعة بصورة مقاربة لما استشنعت، ذلك أن من الباحثين
والمفكرين الإسلاميين من لا يعي قدر المفارقة بين النموذج التشريعي الإسلامي الذي
يتنزل على واقع إسلامي ذو تشكيل وخصائص معينة وبين الواقع الجاهلي المعيش الذي
شكلته قوى الاستعمار الغربي.
فشتان بين الواقع النبوي الذي تنزلت عليه الشريعة
المحمدية فأثمرت تلك الحضارة الراسخة التي كانت ولا زالت شامخة في وجه التاريخ،
وبين الواقع الجاهلي حيث النفوس المشوهة، والقلوب المنحرفة، والقيود الصارمة، فحين
تتنزل الشريعة إلاسلامية على واقع قابل فإنها تثمر ثمرة مختلفة عن تلك التي تثمرها
لو ُانزلت على واقع جاهلي مشوّه، مثال ذلك مثال الأخوين تتم نشأتهما في دار واحدة
وتحت ظروف واحدة وعوامل تربية واحدة، ثم تراهما مختلفان متباينان لا يجمع بينهما
الأ النسب المشترك.
وذلك أن الثمرة تختلف باختلاف الخصائص المتلقية
والتي تتفاعل مع الظرف الواقع عليها .. اذاً، منا من لم يدرك بعد حقيقة الواقع
الجاهلي الذي نعيشه، الواقع الذي يختلف اختلافاً كلياً عن ذاك الذي تنزل عليه
المنهج التشريعي الإسلامي أول مرة، الذي شكله النبي بيده الشريفة مستعيناً بالله
سبحانه مدفوعاً بتأييده ونصره!
إنها ضرورة ماسة اليوم أن نرجع إلى ذلك المُبتدأ
فنقتبس منه أنوار النبوة ونُلبس دعوتنا منهاجها، انها ضرورة اليوم أن نتمرد على
هذا الواقع البئيس، الواقع الذي شكلته أيدي الصليبية والصهيونية العابثة في أرض
الإسلام بمختلف أدوات التأثير الحديث، الواقع الذي احتفل به رؤوس الصليبية حتى قال
قائلهم "زويمر" والذي اجتمع فيه الحقد الصليب والغل اليهودي يوم أن أوصى
بدفنه في مقابر اليهود وهو مبشر نصراني، قال في المؤتمر التبشيري الذي ُعقد في
القدس سنة ١٩٣٥ "إن مهمتكم تمت على أكمل الوجوه، وانتهيتم إلى خير النتائج،
وباركتكم المسيحية، ورضي عنكم الاستعمار، فاستمروا في أداء رسالتكم، فقد أصبحتم
موضع بركات الرب"، فهل يشك عاقل وهو يقرأ هذه الكلمات المتقاطرة حقداً وغلاً
في ما ندعيه من جاهلية معيشة!؟
إن ما نشاهده اليوم من تطبيقات خاطئة للشريعة،
وانحرافات فكرية وسلوكية بينة لدى حملة الإسلام أنفسهم، هو ثمرة طبيعية لما غرسه
الاستعمار من بذور فاسدة، فما لنا وتلك المحاولت العبثية لتنزيل النموذج التشريعي
الإسلامي على هذا الواقع الغربي الجاهلي؟! ما لنا ومحاولت التعايش السلمي؟! إن
حالنا لن يصلح دون توجه صريح إلى إعادة تشكيل الواقع تبعاً لتصوراتنا الإسلامية
الأصيلة المقتبسة من النموذج المحمدي المدني! فإن لم نفعل، كأن توقفنا ورضانا بهذا
الواقع الغربي منشأً لكثير من الضلالات، والتي تؤول بدورها إلى أمور:
1. إماتة بعض مضامين النموذج التشريعي الإسلامي سواء أكانت سلوكاً واقعاً
أم اعتقاداً حيل دونه ودون أن يكون سلوكاً حياً في واقع الناس، وسواء كانت مما
يرتضيه الواقع الجاهلي أم كانت مما ينبذه، فإن نبذه أميت ذكره وضمر أثره على ما
يهوى الرجل الغربي، وإن رضيه سُلبت منه روحه الإسلامية وأُلبس لبوساً جاهلياً،
فأصبح وقوعه على سبيل العادة والثقافة المتغيرة لا ديناً وعقيدةً راسخة.
2. تغليب استعمال على استعمال وشرعة على شرعة، أي عبث في مركزيات الدين
والتراتيب الشرعية، بحيث تمركز الهوامش وتهمش المركزيات، فتتضخم بعض المسائل على
حساب بعض، وذلك أنه ما من مسألة تشغل حيزاً أكبر مما ينبغي لها ويجب بحقها، إلا
كانت في حقيقة الأمر أخذة من حيز غيرها، وكل هذا إنما يسير تبعاً لهوى الرجل
الغربي ووفقاً شريعته الفاسدة!
3. إقحام مكونات غربية في الدين، وإلباسها لبوساً دينياً.
وبذلك يستحيل تحقيق الموائمة بين النموذج
التشريعي الإسلامي والواقع الغربي المعيش، وكل من يسعى إلى إحداث قدر من المناسبة
بينهما مضطر لحد سبيلين، أولهما سبيل المرسلين في تغيير الواقع وتشكيله بما يتناسب
مع شريعة الله، وهذا لا يعني عدم اعتبار الواقع أو إهماله كلياً، وثانيهما سبيل
المبطلين في تشويه وتحريف الدين بالإماتة والتغليب الإقحام كما سبق البيان،
ولتقريب المسألة، فماذا يقع إن أُقحم مكعب في حيز مثلث؟ أليس من البداهة بُعد ذلك
واستحالته؟
فإما أن ينكسر المكعب ليتناسب بعضٌ منه -لا كله-
مع حيز المثلث ولا يمكن أن يسمى حينئذ مكعباً، وإما أن يُعاد تشكيل حيز المثلث
ليصبح على هيئة تتناسب مع المكعب، وهذا ما ننادي به! .. هذا وإن الناظر المتأمل في
سيرة محمد صلى الله عليه وسل ليجد في تأخر نزول الشرائع إلى الفترة المدنية ملمحاً
ودليلاً على ما ندعي، وذلك أن العامل المتعلق بتشكيل الواقع الإسلامي في المدينة
من أهم العوامل المؤثرة في تلك المفارقة بين المرحلة المكية والمدنية، فالشرائع
الإسلامية لا يمكن تنزيلها تامةً سالمة إلا على الواقع الذي شكله الإسلام، وهذا
أصل هام يعين على التعامل مع كثير من نوازل العصر ومستجداته، ولسنا نقصد به إقصاء
الواقع المعيش أو العيش في عالم المُثل، إنما نقصد إلى تغيير الواقع المعيش وإعادة
صياغته، لتأخذ الشرائع بعدئذ مجراها وفق إرادة الله فنعيش المثال على أرض الواقع!
أما الذي يرجوه بعضنا مني الاستمرار في عيش
الحياة الغربية المعاصرة، في زي إسلامي وحركة اسلامية وعقيدة اسلامية، لهو وهم
كبير لا أجد له في لغة الحقائق موضعاً .. وليس الذي نراه مماي يسمونه
"تعايشاً" إلا خدعة كبرى يسير في فلكها من لا يعرف من الإسلام إلا
ظاهره، فليست روح السلام من روح تلك الحضارة الغربية البائسة ف شيء، بل هما ضدان،
وليس للأضداد من اجتماع في سنة الله تعالى، فكيف لنا أن نطبق شرائع السلام وحياتنا
بكل ما فيها تسير تخالفها وتعاكسها!
كيف لنا أن نحفظ عفاف المسلمين في واقع يحارب
شرعة الزواج؟ وكيف لنا أن نعيد الزواج في واقع لا فرق فيه بين المرأة والرجل؟ ثم
كيف لنا أن نعيد المرأة الى أنوثتها، والرجل الى رجولته في واقع اختلت فيه
المعايير الإنسانية الفطرية وخرج فيه الإنسان عن إنسانيته، كيف لنا أن نطبق
الإسلام في واقع يحكمه الشيطان فلا يقبل بالله سبحانه حكماً ومشرعاً وإلهً!؟
جاء الدين الرباني من خالق البشر، العالم بهم، الفاطر لهم، موافقاً لطبائعهم وفطرتهم، فطبيعة الإنسان وفطرته أرض صلبة يتخذها هذا الدين قاعدة تقوم عليها الشرائع وتنطلق منها الأحكام، فمتى اهتزت هذه القاعدة فلا قيام لهذا الدين في واقع الناس .. معركتنا اليوم وفي هذه المرحلة ليست معركةً لإقامة الإسلام بعد، لكنها معركة لإقامة القاعدة التي يقوم عليها الإسلام، معركة لتقويم الطبائع الشاذة، وإيقاظ الفطر المنتكسة، معركة لتصحيح المعايير المختلة والارتقاء بالأفهام المضطربة، وواجبنا الأول فيها التمرد على واقعنا المعاصر، وشن الحرب الظاهرة عليه بما تقتضيه التراتيب الدعوية، وبهذا ننتقل بالإسلام وأهله إلى مرحلة أخرى، مرحلة تكون ثمرتها بإذن الله تعالى قياماً لهذا الدين العظيم وعزة لهذه الأمة المباركة.
الكاتب: عبدالله الخطيب
اكتب تعليق اذا كان لديك اي اقتراح أو سؤال عن الموضوع