📁 آخر المقالات

أفإن مات أو قُتل؟

"وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ".

أفإن مات أو قُتل؟
أفإن مات أو قُتل؟

مات رسول الله! مات بأبي هو وأمي، فكل مصيبة من بعد موته جلل صلى الله عليه وسلم، مات فلا مات فلا مؤمن إلا ويرجو اللحاق به رجاء حق وصدق، "يود أحدهم لو رآني بأهله وماله!"، كان ابن عباس رضي الله عنه إذا حدث عن موت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: يوم الخميس، وما يوم الخميس ثم يبكى حتى يبل دمعه الحصى، فيقال له يابن عباس، ما يوم الخميس ؟ قال : اشتد برسول الله وجعه"!.. مات رسول الله له فحزن عليه رجال من أصحابه حتى كان بعضهم يوسوس، فكان عثمان ممن حزن عليه، فبينما هو جالس في أطم من آطام المدينة إذ مر به عمر فسلم عليه، فلم يشعر بعمر لما به من الحزن! قال أنس رضي الله عنه: لما قبض رسول الله أظلمت المدينة، حتى لم ينظر بعضنا البعض، وكان أحدنا يبسط يده فلا يراها!..

فإذا أتتك مصيبة تشجى بها ** فاذكر مصابك بالنبي محمد!

مات رسول الله في موقف فاق في شدته شدة عمر بن الخطاب يوم صاح بالناس: "ما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا يموت حتى يقتل الله المنافقين! إنما صعق كما صعق موسى من قبل ووالله ليرجعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات!" والناس يلتفون حوله يرجون أن لو كان كلامه حقاً، وبيده السيف يتهدد من يقول إن محمدا -صلى الله عليه وسلم- قد مات ويحلف حتى أتاه الصديق فقال كلمته المشهورة: "أيها الحالف على رسلك، من كان يعبد محمد -صلى الله عليه وسلم- فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت! ثم تلى قول الحق سبحانه: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}!

قال عمر : "والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فَعَقِرْت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض، علمت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد مات، فقال أبو بكر: انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها، فانطلقا إليها فجعلت تبكي، فقالا لها : يا أم أيمن ، إن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: "قد علمت أن ما عند الله خير لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكني أبكي على خبر السماء، انقطع عنا".

صدقتِ أم أيمن! إنا كذلك اليوم لا نبكي أرواحاً مؤمنة صعدت إلى باريها، لا نبكي نفوساً حرة عزيزة اجتباها ربها، لسنا نبكي الشهداء، فهم الأحياء حقاً عند ربهم يرزقون (فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)، إنما نبكي أنفسنا، نبكي تخلفنا وقعودنا! نبكي أنهم ارتقوا دوننا.

إن معادلة المؤمن مختلفة في جوهرها عن كل معادلة دنيوية، فليست الدنيا إلا متاع يحمل المؤمن إلى ربه، فإن كان أهل الأرض قاطبة يحبون الحياة ويتعلقون بها، فقلب المؤمن بالآخرة معلق، يحب الموت كما يحب غيره الحياة، وذلك أنه لا يرى حياته في غير موته! فليست العبرة في هذه الدنيا الفانية، وكل نفس ستموت لا محالة، طال عمرها أم قصر ، إنما العبرة في الحياة الحقة في الحياة الأبدية إما في نعيم وإما في جحيم! وليس يشتغل بالدنيا عن الآخرة، وبالفانية عن الدائمة، وبالمكدرة عن الخالصة، إلا جاهل ذليل استعبدته الدنيا فصدته عن الآخرة، وليس ذاك بالمؤمن، فالمؤمن الحق في توق إلى لقاء ربه، واستعداد دائم ليوم رحيله، وقاعدته في ذلك كله (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)، ذلك هو الفوز الكبير! نعم .. لقد فاز شهيدنا بإذن الله، فاز لما آثر الآخرة على الدنيا، فاز لما أقبل على ربه مجاهداً في سبيله، رافعاً كلمته، محامياً عن دينه، فاز والله فوزاً عظيماً!

كيف نبكيه وقد قام بـ "لا إله إلا الله" يوم قعد المسلمون جميعاً!؟ كيف نبكيه وقد حمل راية الجهاد الأخيرة ضد جبروت الكفر والطغيان!؟ كيف نبكيه وقد قام مقام عبودية يتمنى أهل الجنة أنفسهم أن لو عادوا إلى الدنيا ليكون لهم مثله، قال صلى الله عليه وسلم: "ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا، وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا، فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة"!.. فلا تبكِ أمتي القائمين بأمر الله، فهم في خير وإلى خير إن شاءالله، ولا تبك دين الله فهو منصور بوعد الله، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة"!..

لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان موته بلاء يمتحن الله به صدق الصادقين، ويبلوا عباده الموحدين (مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيرُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ)، مات رسول الله فلم يلبث جسده الشريف أن وارى التراب حتى ارتدت العرب عامة أو خاصة من كل قبيلة، وظهر النفاق، واشرأبت يهود والنصرانية، وبقي المسلمون كالغنم في الليلة المطيرة لفقد نبيهم، وقلتهم ، وكثرة عدوهم!.

فتن دهماء تموج كما يموج البحر، تذهل لها العقول وتحار أمامها الأفهام وتختلط فيها الحقائق بالأباطيل، وفي تلك المشاهد العظام، تحت جناح الابتلاء، عندما تضيق على المسلمين الأرض بما رحبت وتبلغ القلوب الحناجر، ينقسم المسلمون وتتمايز أحوالهم وتتجلى حقائق بواطنهم، فمنهم من يحسن الظن بربه فيرجع إليه ويتكل عليه، ولا يرى في الابتلاء إلا تصديقاً لوعده -سبحانه وتعالى-، وتحقيقاً لسنته، وسهماً من سهام حكمته، فلا يدفعه البلاء إلا لمزيد إيمان ويقين ذلك الذي يثمر صبراً وثباتاً، وعزماً وعملاً، فترى البلاء يتنزل عليه تترا فلا يزداد إلا شموخاً وصبراً (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا)، ومنهم من يظن السوء، فيغلب عليه الوهن وينقلب على عقبيه خسر الدنيا والآخرة (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا)، فما كان حال الصحابة رضي الله عنهم مع البلاء؟ وهل بدلوا من بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ أم صبروا وصابروا ورابطوا؟!

قام الصحابة إلى الصديق رضي الله عنه فقالوا إن العرب قد ارتدت، وما لنا قوة عليهم، فهلا كان سلماً حتى تقوى شوكة المسلمين؟! وفي ظاهر اجتهادهم مصلحة الإسلام والدعوة، فقال رضي الله عنه: والله لو منعوني عناقاً وفي رواية: عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم عليه، ثم قاموا يجادلونه في جيش أسامة، فقال لهم في ثبات وبصيرة: "والله ! لا أحل عقدة عقدها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولو أن الطير والسباع من حول المدينة تخطفنا، ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لأنفذن جيش أسامة!"، فلما رأى الصحابة ذلك قال بعضهم لعمر بن الخطاب : قل له : فليؤمر علينا غير أسامة، لصغر سنه رضي الله عنه، فذكر ابن الخطاب رضي الله عنه ذلك له، فانتفض أبو بكر وأخذ بلحية عمر وقال: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب! أؤمر غير أمير رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!.. وهكذا ثبت الصحابة رضوان الله عليهم، فكتب الله لهم العزة والتمكين، وضربوا في مشارق الأرض ومغاربها، وفتحت عليهم أبواب خيراتها!

أمتي .. إن الطريق الذي نسلكه اليوم، هو ذات الطريق الذي سلكه الصحابة من قبل، ذات الطريق الذي سالت فيه دماء آل ياسر النقية، والذي عُذب وأوذي على جنباته بلال بن رباح وهو ينادي ( أحدٌ .. أحدٌ )، هو ذات الطريق الذي شج فيه النبي وسالت عليه دماؤه الشريفة، والذي استشهد فيه حمزة وسادات من الصحابة الأجلاء، هو ذات الطريق الذي مات فيه ولأجله رسول الله صلى الله عليه وسلم!.. فهل لنا أن نبخل بدمائنا في طريق اصطبغ بدمائهم الطاهرة؟!

إن قطرة واحدة من دماء النبي لتزن دمائنا جميعاً! هذا هو الطريق، وهذه هي ضريبته، (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ)؟ لن تتحرر القدس ولن يعز الإسلام بغير تضحية، فكل قطرة دم تسفك في سبيل الله هي جزء من عبودية واجبة يريدها الله سبحانه وتعالى، يتحقق بمجموعها الوعد الرباني



راً وثباتاً، وعزماً وعملاً،،
وتتنزل الاستجابة الإلهية (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَا كَفَرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ * لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلَبُ الذِينَ كَفَرُوا في الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تجري مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ)، فاِلحمد لله الصمد العدل الذي لا يظلم عنده أحد، القوي الجبار الذي يخضع له كل شيء، الرحمن الرحيم الذي يرفق بعباده ويجبر ضعفهم.

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"

والحمد لله رب العالمين

الكاتب: عبدالله الخطيب

Mustafa Alhassan
Mustafa Alhassan
تعليقات